كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.
قال ابن كثير (في سبب نزولها) أخرج الإمام أحمد عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال: مر جل من بني سُلَيم بنفر من أصحاب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يرعى غنمًا له، فسلم عليهم، فقالوا: ما يسلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فنزلت هذه الآية: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ} إلى آخرها، ورواه الترمذيّ ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن أسامة بن زيد.
رواه الحاكم وصححه، وروى البخاريّ عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان رجل في غنيمة له، فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك.... إلى قوله: {عرض الحياة الدنيا} تلك الغنيمة.
وقال البخاريّ: قال حبيب بن أبي عَمْرة عن سعيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للمقداد: «إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل»، هكذا رواه البخاريّ معلقًا مختصرًا.
ورواه الحافظ أبو بكر البزار مطولًا موصولًا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سرية فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلًا شهد أن لا إله الله الله؟ والله! لأذكرن ذلك للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فلما قدموا على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قالوا: يا رسول الله! إن رجلًا شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال: «ادعوا لي المقداد، يا مقداد! أقتلت رجلًا يقول: لا إله إلا الله! فكيف لك بـ (لا إله إلا الله) غدًا؟» قال: فأنزل الله: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ} إلى قوله: {كَذَلِكَ كُنتُم مّن قَبْلُ} الآية، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للمقداد: «كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل».
قال ابن كثير: فقوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُم مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ} أي: قد كنت من قبل هذه الحال كهذا الذي يُسِرّ إيمانه ويخفيه من قومه، كما تقدم في الحديث المرفوع، وكما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: من الآية 26] الآية، وهذا وجه آخر في مرجع الإشارة، غير ما سلف، وهو الأدق، وبالقبول أحق.
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: يستفاد من هذه الرواية (أي: رواية البزار) تسمية القاتل، وأما المقتول، فروي الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وأخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة نحوه، واللفظ للكلبي: أن اسم المقتول مرداس بن نَهِيْك، من أهل فدك، وأن اسم القاتل أسامة بن زيد، وأن اسم أمير السرية غالب بن فَضَالة الليثي، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده، وكان ألجأ غنمه بجبل، فلما لحقوه قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، فلما رجعوا نزلت الآية.
وكذا أخرج الطبري من طريق السدي نحوه، وفي آخر رواية قتادة: لأن تحية المسلمين السلام، بها يتعارفون.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال: أُنزلت هذه الآية في مرداس، وهذا شاهد حسن، وأسند ابن أبي حاتم أن أسامة حلف لا يقتل رجلًا يقول: لا إله الله، بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فيه.
قال بعض المفسرين من أئمة الزيدية: وبهذا اعتذر إلى عليّ عليه السلام حتى تخلف عنه، وإن كان عذرًا غير مقبول، لأن القتال مع الإمام واجب عند خروج البغاة ويكفر يمينه.
قال الحاكم: إلا أن أمير المؤمنين أذن له. انتهى.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن رِبْعي، ومحلِّم بن جثَّامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه مُتيع له (تصغير متاع، وهو السلعة) ورطب من لبن، لما مر بنا سلم علينا، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جَثَّامة فقتله، لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأخبرناه الخبر، نزل القرآن: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} إلى قوله تعالى: {خَبِيرًا}.
ورواه ابن جرير عن ابن عمر وزاده: فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ليستغفر له فقال رسول الله: «لا غفر الله لك»، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات، ودفنوه في الأرض، فلفظته الأرض، فجاؤوا إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فذكروا ذلك له، فقال: «إن الأرض تقبل من هو شرٌّ من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم»، ثم طرحوه بين صَدَفي جبل، وألقوا عليه الحجارة ونزلت.
وروى أئمة السير؛ أنه لما كان عام خيبر، جاء عيينة بن بدر يطلب بدم عامر وهو سيد قيس، وكان الأقرع بن حابس يردّ عن محلِّم وهو سيد خندف فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لقوم عامر: «هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيرًا، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة؟».
فقال عيينة بن بدر: والله! لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحرّ مثل ما أذاق نسائي، فلم يزل به حتى رضي بالدية.
قال ابن إسحاق: حدثني سالم بن النضر قال: لم يقبلوا الدية حتى قام الأقرع بن حابس فخلا بهم: فقال: يا معشر قيس! سألكم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قتيلًا تتركونه ليصلح به بين الناس فمنعتموه إياه، أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فيغضب عليكم الله لغضبه؟ أو يلعنكم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فيلعنكم الله بلعنته؟ والله! لتسلمنه إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، أو لآتين بخمسين من بني تميم كلهم يشهدون أن القتيل ما صلى قط، فلأبطلن دمه، فلما قال ذلك أخذوا الدية.
وأخرج ابن منده عن جزء بن الحدرجان قال: وَفَدَ أخي، قدادٌ إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من اليمن فلقيته سرية النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فقال لهم: أنا مؤمن، فلم يقبلوا منه وقتلوه، فبلغني ذلك، فخرجت إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فنزلت: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ} الآية، فأعطاني النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم دية أخي.
قال القفال: ولا منافاة بين هذه الروايات، فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها، فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته. انتهى.
وتقدم لنا في مقدمة التفسير في سبب النزول ما يدفع التنافي في نحو هذا، فارجع إليه.
تنبيه:
قال الرازيّ: اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين، وأمر المجاهدين بالتثبت فيه، لئلا يسفكوا دمًا حرامًا بتأويل ضعيف.
وفي الإكليل: استدل بظاهره على قبول توبة الزنديق إذا أظهر الاستسلام، وعلى أن الكافر يحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي اعتقاده، على قراءة (السلام) وفي الآية وجوب التثبت في الأمور، خصوصًا القتل ووجوب الدعوة قبل القتال. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: في الآية دليل على أن من أظهر شيئًا من علامات الإسلام لم يحل دمه حتى يختبر أمره، لأن السلام تحية المسلمين، وكان تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك، فكان هذه علامة، وأما على قراءة (السلم) بفتحتين، أو بكسر فسكون، فالمراد به الانقياد، وهو علامة الإسلام. انتهى.
وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية الكريمة وجوب الثبت والتأني فيما يحتمل الحظر والإباحة، لقوله: {فَتَبَيَّنُوا} بالنون وهذه قراءة الأكثر، وحمزة والكسائي قراءتهما: (فتثبتوا) من (الثبات)، ويدخل في هذا أحكام كثيرة من الاعتقادات والأخبار والأفعال من الأحكام وسائر الأعمال، فهذا حكم، والحكم الثاني أنه يجب الأخذ بالظاهر، فمن أظهر الإسلام أو شيئًا من شعائر الإسلام، لا يكذّب بل يقبل منه، ويدخل، في هذا، الملحد والمنافق، وهذا هو مذهبنا والأكثر، ويدخل في هذا قبول توبة المرتد، خلافًا لأحمد، وقبول توبة الزنديق، وهذا قول عامة الأئمة.
وقال مالك: لا تقبل، لأن هذا عين مذهبهم أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.
قال الراضي بالله والإمام يحيى: إن أظهروا ما يعتادون إخفاءه قبلت توبتهم، وإلا فلا، قال عليّ خليل: تقبل توبتهم، ولو عرفنا من باطنهم خلاف ما أظهروا، كما قبل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من المنافقين، وقد أخبر الله تعالى بكفرهم.
وقال أبو مضر: تقبل ما لم يعرف كذبهم، وهذا الخلاف في الظاهر، وأما عند الله، إذا صدق، فهي مقبولة وفاقًا.
قال الحاكم: وتدل على التوصل بالسبب المحرم إلى المال لا يجوز ووقد ذكر العلماء صورًا في التوصل إلى المباح بالمحظور مختلفة، ذكرت في غير هذا الموضع، والحجة هنا من قوله تعالى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا} لأن الذي قصد هنا أخذه، محظور، لأن إظهار الإسلام يحقن النفس والمال، فذلك توصل بمحظور إلى محظور، وقوله تعالى: {لمنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قرئ {السلم} وهذه قراءة نافع وحمزة وابن عامر بغير ألف وهو الاستسلام، وقيل: إظهار الإسلام، وقرأ الباقون: {السلام} بألف وهو التحية. انتهى.
وقال أبو منصور في «التأويلات»: فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة، والنهي عن الإقدام عندها، وهكذا الواجب على المؤمن الوقف عند اعتراض الشبهة في كل فعل وكل خبر، لأن الله تعالى أمر بالتثبت في الأعمال بقوله: {فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لمنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وقال في الخبر: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيّنُوا} [الحجرات: من الآية 6]، أمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة، كما أمر في الأفعال لنبيه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلم} [الإسراء: من الآية 36]، وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة، لأنه نهاهم أن يقولوا (لمن قال: إني مسلم) لست مؤمنًا، وهم يقولون صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، وهو يقول ألف مرة (على المثل) أني مسلم، فإذا نهى أن يقولوا: ليس بمؤمن، أمرهم أن يقولوا: هو مؤمن، فيقال لهم: أنتم أعلم أم الله؟ على ما قيل لأولئك. انتهى.
وقال الرازيّ: قال أكثر الفقهاء: لو قال اليهودي والنصراني: أنا مؤمن، أو قال: أنا مسلم، لا يحكم بهذا القدر بإسلامه، لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام، وهو الإيمان، ولو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعند قوم لا يحكم بإسلامه، لأن فيهم من يقول: إنه رسول الله إلى العرب، لا إلى الكل، ومنهم من يقول: إن محمدًا الذي هو الرسول الحق، بعدُ ما جاء، وسيجيء بعد ذلك، بل لابد وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل، وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق والله أعلم. انتهى.
أقول: كل من قال: أنا مؤمن أو أنا مسلم، من المحاربين، مظهرًا الانقياد لنا، وأنه من ملتنا، فإنه يحكم بإسلامه، ويكف عن قتله وأخذ ماله، كتابيًا كان أو مشركًا، وهذا هو المقصود من الآية، وأما مسالة من أراد الدخول في الإسلام وهو على عقيدة فاسدة، وأنه لابد في صحة إسلامه من تبرئه عنها، ونبذها ظهريًا، وأنه لا يكتفي بقوله: أنا مسلم- فذاك بحث آخر مسلَّم، لكن ليس مما تشمله الآية، كما أن من أظهر الإسلام وأتى بالشهادتين ولم يَدِنْ بشرائع الإسلام وإقامة شعائره، كبعض القبائل البادية الجافية، فإن يجب على الإمام قتالهم، ولا يقال: إن الآية تشملهم لما ذكرنا، وظاهر أن مدار النهي في الآية إنما هو على سفك الدماء ابتغاء عرض الدنيا، لقوله (تبتغون)، وهو حال كما أسلفنا، والحال قيد لعاملها، فما ذكره الرازيّ عن الفقهاء ليس مما تشمله الآية، لأن البحث ليس في القدر الذي يصير به الكافر مسلمًا، بل في الكف عن قتل المنقاد لنا، فافهم. اهـ.